صناعة اللحوم في الولايات المتحدة تحشر الحيوانات بكثافة مخيفة على برازها وتحقنها بكثير من المضادات لإبقائها على قيد الحياة

يدور منذ بضع سنوات في العديد من الدول، نقاش عام حول العواقب الصحية، الأخلاقية والبيئية لصناعات الأغذية الحيوانية.  ويقول علماء كثيرون بضرورة إحداث تغييرات جذرية في طريقة تربية الحيوانات، بهدف تقليص المخاطر على البيئة والصحة العامة.  إلا أن صناعات الأغذية قوية بما يكفي لمنع مثل تلك المبادرات. المثال البارز على ذلك الولايات المتحدة التي تعد "بطلة" العالم في استهلاك المنتجات الحيوانية.

وتشير التقديرات إلى أن 9.8 مليار حيوان يذبح كل عام في الولايات المتحدة.  التغييرات التي حدثت في العقود الأخيرة على صناعة اللحوم وتربية الحيوانات زادت أرباح هذه الصناعة، لكن المشاكل البيئية والصحية المرتبطة بها ازدادت سوءا.  على سبيل المثال، ازدادت كمية المياه العادمة إلى حد كبير، وهي الآن تحوي بقايا الأدوية التي قد تصل إلى الموارد المائية والمحاصيل.  وكلما ازداد حجم التربية الصناعية للحيوانات في الحظائر والإسطبلات الضخمة المميكنة، كلما تفاقمت الأضرار التي تلحق برعاية الحيوانات.

قبل نحو ست سنوات، شاركت مؤسسة PEW للأبحاث وتطوير السياسات العامة، في مشروع مشترك مع باحثين من جامعة جون هوبكنز، يهدف إلى دراسة حالة صناعة الثروة الحيوانية في الولايات المتحدة وتأثيرها على البيئة والصحة البشرية و"رفاهية" الحيوانات.  وأعد فريق الباحثين تقريرا شاملا
ومعمقا حصل على إشادة الكثيرين.  وكان باراك أوباما المرشح للرئاسة الأميركية آنذاك أحد القراء المتحمسين للتقرير، وقد وعد بدعم توصيات الباحثين.  وتمثلت التوصية الرئيسية في حظر استخدام المضادات الحيوية في صناعة تربية الحيوانات، لأغراض غير طبية. وأشار الباحثون إلى أنه من أجل منع أمراض معينة يمكن استخدام هذه الأدوية لعلاج البكتيريا المسببة للأمراض، لكن لفترة قصيرة فقط.

ومن بين التوصيات الهامة الأخرى إلزام صناعة الأغذية الحيوانية بالعمل وفقا لمعايير بيئية أكثر صرامة.  إذ اتضح بأن ثلث كمية المياه العادمة فقط في منشآت الثروة الحيوانية تعالج وفقا لما يتطلبه قانون حماية موارد المياه في الولايات المتحدة. وبالإضافة إلى مخلفات العقاقير، ينبعث من الصناعات الحيوانية إلى البيئة كميات كبيرة من الأسمدة الكيميائية أيضا، مثل المركبات النيتروجينية والفسفورية التي تهدد الأرض والمياه الجوفية.

استنتاجات الباحثين كانت لا لبس فيها:  "النظام الحالي لإنتاج الأغذية في الولايات المتحدة غير قابل للحياة ويشكل خطراً غير مقبول على الصحة العامة ويتسبب بأضرار للبيئة وأذى لا لزوم له للحيوانات".  نشطاء حقوق الحيوان يعتبرون توصيات الباحثين المتعلقة برعاية الحيوانات أبعد من أن تعبر عن معاناة الأخيرة.

بعد ست سنوات من صدور توصيات الباحثين، عاد باحثو جامعة جون هوبكنز لمتابعة ما آلت إليه توصياتهم.  نتائج المتابعة يمكننا استخلاصها من مقابلة مع روبرت مارتين أحد الباحثين، أجراها في شهر كانون أول الماضي موقع "Environment 360" التابع لجامعة ييل والمتخصص بالقضايا البيئية. 

وقد تبين من المتابعة أن التوصية الرئيسية المتعلقة باستخدام المضادات الحيوية لم تنفذ، وذلك بسبب الضغوط التي تمارسها أوساط الصناعات الغذائية الحيوانية.  وتعطى هذه الأدوية حاليا للحيوانات بجرعات منخفضة مع الطعام أو الماء لمنع البكتيريا مسبقا من النمو، وذلك حتى تساق الحيوانات إلى الذبح.  ويشير مارتن إلى أن مسألة الرفق بالحيوان ترتبط ارتباطا عكسيا بمدى استخدام الأدوية؛ "فالحيوانات يتم حشرها  بكثافة كبيرة للغاية، وهي تظل واقفة أو رابضة على برازها طوال حياتها.  والسبب الوحيد لعدم موتها وبالتالي بقائها على قيد الحياة في ظل هذه الظروف، هو الاستعمال غير الطبي للمضادات الحيوية".

وقد يترتب على الاستخدام واسع النطاق لهذه الأدوية آثار وخيمة على الصحة العامة.  ففي منشآت صناعة تربية الحيوانات تتسارع وتيرة نمو البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، وتنتشر تلك البكتيريا في البيئة عن طريق الحشرات أو الطيور.  وفي حين تسعى جهات علمية عديدة جاهدة لإقناع الجمهور بتقليل استخدامه للمضادات الحيوية أو حتى التخلي عن استعمالها كليا؛ فإن 80٪ من كمية تلك المضادات المستهلكة، تستخدم في الصناعة الحيوانية.

كما أن التعامل مع الآثار البيئية لم يحرز أي تقدم منذ نشر الدراسة قبل ستة أعوام؛ إذ أن مرشحي الرئاسة الأميركية يركزون بشكل كبير على الدعم الذي قد يحصلون عليه في ولايات مثل "أيوا"، "أوهايو" ومينيسوتا حيث اللوبي الزراعي قوي جدا.  ولهذا السبب، لم تكلف إدارة أوباما نفسها حتى اليوم عناء المتابعة المنظمة لمدى معالجة المياه العادمة؛ إذ أن قوة الصناعات الغذائية الحيوانية ليست أقل من قوة صناعات التبغ والأسلحة التي منعت في الماضي اتخاذ إجراءات تشريعية كان من شأنها فرض قيود مختلفة على تلك الصناعات.

ويمكننا في داخل الصورة القاتمة رؤية بعض النقاط المضيئة.  إذ أن بعض منظمات الرفق بالحيوان كشفت بواسطة الكاميرات الخفية الظروف الصعبة التي تحشر فيها الحيوانات.  ونتيجة لهذا النشاط فرض على تلك الصناعة بأن تتحول نحو استخدام مرافق أكثر اتساعا لتربية الخنازير والدواجن.  وتمثلت أهم استنتاجات باحثي جامعة جون هوبكنز في أن الضغط الشعبي المستمر على السياسيين، من شأنه فقط أن يحدث تغييرا قويا وأن يؤدي إلى تنفيذ سريع للإجراءات الكفيلة بتحسين رعاية الحيوان ومنع التلوث البيئي.  وفي هذا السياق، استشهد مارتن بما قال له  مرة أحد حكام ولاية كنساس:  "A politician begins to see the light when he feels the heat"؛ أي أن "السياسي يبدأ برؤية النور عندما يشعر بالحرارة ".